فصل: موعظة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

عباد الله كلنا يعلم أن النَّاس قسمان، قسم انحاز إِلَى الله، وهؤلاء حزب الله الَّذِينَ قَالَ الله فيهم: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وقسم انحاز إِلَى عدو الله إبلَيْسَ لعنه الله وهؤلاء حزب الشيطَانَ الَّذِينَ قَالَ الله فيهم: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فالأولون الَّذِينَ هم حزب الله لا تراهم يطيعون الشيطان أبدًا ولِذَلِكَ لا تجدهم يفسدون فِي الأَرْض، بل هم بركة فِي هَذَا الوجود. فإذا رَأَيْت مَسْجِدًا معمورًا فهم الَّذِينَ وفقهم الله لبنائه، وإن قِيْل لَكَ إنهم لا يظلمون، وينهون عَنْ الظلم والجور فصدق، وإن رَأَيْت مُحْتَاجًا سدت حاجته، فهم الَّذِينَ وفقهم الله لإنعاشه، وسدها وإن رَأَيْتَ عَارِيًا فهم الَّذِينَ وفقهم الله لكسوته، وإن قِيْل إن الْمُنْكَر الفلاني أزيل فهم الَّذِينَ وفقهم الله للتسبب فِي إزالته، وإن قِيْل لَكَ إن إصلاحًا فِي الأَرْض كَانَ صعبًا فسهل بإذن الله، فهم الَّذِينَ وفقهم الله لإزالته أَوْ تسهيله. وإن قِيْل إن أناسًا يدورون على البيوت يتفقدون الفقراء الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ موارد فهم الَّذِينَ وفقهم الله لِذَلِكَ، وإن قِيْل إن أناسًا يتفقدون من عَلَيْهِ دين فيتسببون لوفائه، فهم الَّذِينَ وفقهم الله لِذَلِكَ، وإن قِيْل: إنهم يعبدون الله عبادة من لا يمل ولا يفتر، فصدق بمجرد ما يقَالَ لَكَ.
وإن قِيْل إن بَعْض البيوت وهي القليلة إِنَّكَ تسمَعَ فيها بالليل صوت بُكَاء وأنين وتهجدًا واستغفارًا، فهم أولئك الَّذِينَ وفقهم الله وجعلهم حزبه.
وإن قِيْل لَكَ إن أناسًا عندهم عطف على الفقراء، ورحمة وإيثار وإحسان إِلَى الجار، ومواسات الضعفاء، وغير ذَلِكَ، مِمَّا يكاد فِي زمننا هَذَا أن يكون نادرًا فهم أولئك الَّذِينَ وفقهم العليم الخبير، وهؤلاء هم المهذبون المتنورون المتأدبون.
أما الفريق الثاني عصمنا الله وَإِيَّاكَ عَنْ طَرِيق سلوكهم، فهم حزب الشيطان لا يحصل فساد فِي الأَرْض إِلا مِنْهُمْ، لأنهم حزب الشيطان وإن قِيْل إن مؤمنًا قُتِلَ فهم الَّذِينَ قتلوه، أَوْ تسببوا لقتله، لا يختلف فِي ذَلِكَ اثنان، وإن قِيْل لَكَ أن سيارة سُرِقَتْ فهم الَّذِينَ سرقوها.
وإن قِيْل إن منزلاً هوجم وَسُرِقَ فقل بلا تردد: هم الَّذِينَ هاجموه وسرقوه، وهل حزب الرحمن يعتدون مثل هَذَا العدوان، وإن قِيْل إن إنْسانًًا خطف وغيب ولا يعلم أين كَانَ، فقل هم الَّذِينَ خطفوه وغيبوه، وإن قِيْل إن مسلمًا ذا ثروة نشل وأخذ منه آلاف، فقل وهل ينشل ويخطف ويعبث بأموال النَّاس إِلا أولئك الأَشْرَار حزب الشيطان.
حزب الله الموفقون الكمل بعيدون عَنْ المعاصي جدًا، فلا تَرَى الواحد مِنْهُمْ يتعمد الجلوس فِي الطرق، ويداوم الْمُرُور فيها لمطاردة النساء ومغازلتهن، ولا تراه يركب النساء بلا محرم ولا يدخلها لتشتري أَوْ يفصل عَلَيْهَا، ولَيْسَ معها محرم ولا تجده يبيع صور ذوات الأرواح، ولا يصورها، ولا يبيع البدع المنكرات، ولا يجلس عندها، وهي البدع المحرمة، التي حدثت فِي زمننا مثل التلفزيون والسينماء والمذياع، والكرة، والورق، والبكم والدخان والفديو ونحو هَذِهِ المنكرات التي قضت على الغيرة والمروءة والشيمة. نسأل الله العافية.
ولا يغش الْمُسْلِمِين، ولا يكون ذا وجهين يتكلم عَنْدَ هؤلاء بوجه وعَنْدَ الآخرين بوجه، ولا ينافق ولا يوقع بريئًا فِي مأزق ولا يشهد بالزور، ولا يحظر عَنْدَ المنكرات، بل تراهم فِي مجالس الذكر يدورون حول ما يقربهم إِلَى الله.
ولا تراهم يركنون إِلَى أعداء الله، ولا الفسقة ولا يعظمونهم ولا يتملقون لَهُمْ، ويضحكون معهم، كما يفعله السذج، الَّذِينَ لا يعرفون الولاء والبراء، ولا تنشرح صدورهم، ولا تهتز عواطفهم ولا تستريح قُلُوبهمْ، ولا يهدؤُ بآلهم، ولا يسكن قلقهم، إِلا إِذَا زاحموهم وجالسوهم، ومازحوهم وعظموهم، ممن نسوا الله فأنساهم أنفسهم والتهوا عما هم إليه صائرون، فلم يحسبوا لَهُ حسابًا، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}.
وقَالَ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} وقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} الآيَة.
فالَّذِي ينبغي أن يتبع ويقتدى به من تمسك بكتاب الله، وامتلأ قَلْبهُ بمحبة الله، وفاض ذَلِكَ على لِسَانه، فلهج بذكر الله، ودعا إِلَى الله واتبع مراضيه، فقدمها على هواه وحفظ وقته فِي طاعة الله بعيدًا عَنْ أذية الْمُسْلِمِين لا يقابل الإساءة بمثلها بل يدفع بالتي هِيَ أحسن وَهَذَا حقًا هُوَ المهذب المتنور:
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ ** أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ

إِنِّي أُُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ** لأَدْفَعَ الشَّرِّ عَنِي بِالتَّحِيَّاتِ

وَأُحْسِنُ الْبَشرَ لِلإِنْسَانِ أُبْغِضُهُ ** كَأَنَّهُ قَدْ مَلا قَلْبِي مَوَدَّاتِ

وَلَسْتُ أُسَلِّمُ مِمَّنْ لَسْتُ أَعْرِفُهُ ** فَكَيْفَ أَسْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْمَوَدَّاتِ

آخر:
يَأْبَى فُؤَادِي أَنْ يَمِيلَ إِلَى الأَذَى ** حُبُّ الأَذِيَّةِ مِنْ طِبَاعِ الْعَقْرَبِ

لِي إِنْ أَرَدْتُ مسَاءَةً بِمسَاءَةً ** لَوْ أَنَّنِي أَرْضَى بِبَرْقٍ خُلَّبِ

حَسْبُ الْمُسِيءِ شُعُورُهُ وَمَقَالُهُ ** فِي سِرِّهِ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُذْنِب

اللَّهُمَّ خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأَبْرَار واصرف عنا شر الأَشْرَار وأعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار يَا عزيز يَا غفار، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وَوَفِّقْنَا للقيام بحقك وبارك لَنَا فِي الحلال من رزقك ولا تفضحنا بين خلقك يَا خَيْر من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يَا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لَنَا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنياه يَا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما فِي ضمائر الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ: وداء فِي تفسير قوله تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} الآيَة. أنها نزلت فِي أبي عبيدة.
وإليك الْقِصَّة مسوقة بأكملها، أبو عبيدة بن الجراح رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَانَ صحابيًا جليلاً وبطلاً عظيمًا مِنْ أَبْطَالِ الإِسْلامِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، حَرصَ أَبُوهُ عَبْدُ اللهِ عَلَى قَتْلِهِ فِي أَوْلِ لِقَاءٍ، لأَنَّ أَبَا عُبَيْدَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَرَكَ دِينَ أَبِيهِ، وَاعْتَنَقَ الإِسْلامَ، وَتَخَلَّفَ عَنْ قَافِلَةَ قُرَيْش، وَالْتَحَقَ بِقَافِلَةِ مُحَمَّد بن عَبْد اللهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مُؤْمِنًا بِدِينِهِ مُصَدِّقًا بِرِسَالَتِهِ.
تَصَدَى عَبْد اللهِ لابْنِهِ مُحًاوِلاً قَتْلَهُ، فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَكن الابْن أَبْعَدَ عَنْهُ وَحَوَّلَ سَيْفَهُ عَنْ أَبِيهِ وَانْطَلَقَ إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى غَيْرَ التي فِيهَا أَبُوهُ، يُقَاتِلُهَا وَيُجَاهِدُهَا وَافْتَرَقَ الرَّجُلانِ وَلَكن الأَبَّ بَحَثَ عَنْ ابْنِهِ حَتَّى الْتَقَى بِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَرَفَعَ سَيْفَهُ عَلَيْهِ وَوَجَّهَ إِلَيْهِ ضَرْبَةً قَاضِيَةً اسْتَقْبَلَهَا أَبُو عُبَيْدَة بِحَرَكَةٍ خَفِيفَةٍ، جَعَلَتْهَا تهوى فِي الْفَضَاءِ.
وَلَكن الأَبَّ مُصَمِّمٌ عَلَى أَنْ لا يَفْلِتَ الابْن مَهْمَا كَلَّفَهُ ذَلِكَ مِنْ غَالِي الثَّمَنَ فَبَحَثَ عَنْ ابْنِهِ هُنَا وَهُنَاكَ، وَنَقَّبَ عَنْهُ فِي كُلِّ مَكَانَ حَتَّى الْتَقَى بِهِ مَرَّةً ثَالِثَةً، وَرَفَعَ الرَّجُلَ سَيْفَهُ لِيُوَجِّهُ إِلَى ابْنِهِ ضَرْبَةً قَاضِيةً مُمِيتَةً يَشْفِي كلوم قَلْبه وَتَهْدَأَ بِهَا نَفْسُهُ الثَّائِرَةَ عَلَى ابْنِهِ الصَّابِئِ.
وَهُنَا نَظَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ أَبَاهُ يَعْتَرِضُ وَيَتَصَدَّى لَهُ وَفِي اعْتِرَاضِهِ هَذَا اعْتِرَاضٌ لِلإِسْلامِ، فَمَا أَبُو عُبَيْدَة إِلا جُنْدِيٌّ مِنْ الْجُنُودِ الْقَائِمِينَ بِنَصْرِ الإِسْلامِ، وَأَنَّ فِي تَصّدِّيهِ لَهُ سَدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِقَامَةِ دِينَ الرَّحْمَنِ، وَانْتِشَارِ كَلِمَةِ اللهِ فِي الأَرْضِ فَهَلْ يَصْمُتُ أَبُو عُبَيْدَة عَلَى هَذَا، وَهَلْ يَسْكُتَ عَلَى مَنْ يَحُولَ بَيْنَ دَعْوَةِ اللهِ أَنْ تَقُومَ فِي الأَرْضِ وَأَنْ تُنْشَرَ بَيْنَ النَّاسِ كَلا لَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ نَحْوَ أَبِيهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ.
وَلَكِنَّ مَا دَامَ أَبُوهُ يَحْرِصَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، فَلْيَكُنْ هُوَ أَسْبَقُ مِنْ أَبِيهِ فِي حِرْصِهِ عَلَى قَتْلِهِ، كَذَلِكَ وَالْتَقَى السَّيْفَانِ وَتَقَابَلَ الرَّجُلانِ وَوَقَفَ الْخِصْمَانِ، وَفِي لَمْحَةٍ خَاطِفَة رَفَعَ الرَّجُلانِ سَيْفَهُمَا كُلٌّ يَحْرِصَ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ، وَالانْتِصَارَ لِدِينِهِ.
وَرَفَعَ أَبُو عُبَيْدَة يَدَهُ عَالِيةً خَفَّاقَةً، وَفِي سُرْعَةٍ أَهْوَى بِسَيْفِهِ الْبَتَّارِ عَلَى قَلْبِ وَالِدِهِ الْمُمْتَلِئ حِقْدًا وَغَضَبًا عَلَى الإِسْلامِ، ودعوة الإِسْلامِ، وَمَزَّقَ السَّيْفُ قَلْبَهُ، وَانْفَجَرَ الدَّمُ مِنْهُ بِكَثْرَةٍ وَكَانَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ مِنْ سَاعَاتِ التَّارِيخِ الْفَاصِلَةِ.
هَذَا مِنْ آثَارِ الْحُبِّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضِ فِي اللهِ، وَهَذَا الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا مُنْطَبِقَةً عَلَى مَا تَأْمُرُ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهْرَةُ فَيُحِبُّ مِنَ النَّاسِ مَنْ نَهَجَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ وَيَبْتَعِدُ عَنْ منْ حَادَ عَنْ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ.
وَمَنِ اتَّبَعَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ انْطَبَعَ فِي قَلْبهُ حبّ الْكَمَالِ وَالإِيمَانِ فَيَكُونَ عَدُوُّ اللهِ فِي نَظَرِهِ عَدُوًّا، وَحِينَئِذٍ يَرَى أَنْ أَعْظَمَ النَّاسِ قِيمَةٍ أَهْلُ الإِخْلاصِ وَالطَّاعَةِ وَأَحَطَّهُمْ مَنْزِلَةً أَهْلُ الْمَعَاصِي والشَّنَاعَةِ وَالْفَسَادُ فِي الأَرْضِ.
وكَذَلِكَ كَانَ شأن المصطفى صلى الله عليه وسلم وشأن أصحابه رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يحبون فِي الله، ويبغضون فِي الله يوادون الطائعين وإن كَانُوا بعداء ويعادون العاصين وإن كَانُوا أقرباء فرابطة التَّقْوَى عندهم أشد وأقوى من رابطة النسب والقرابة.
وعن البراء بن عازب: أوثق عرى الإِيمَان الحب فِي الله والبغض فِي الله.
وفي حديث مرفوع: «اللَّهُمَّ لا تجعل لفاجر عِنْدِي يدًا ولا نعمة فيوده قلبي فإني وجدت فيما أوحي إِلَيَّ: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}». رَوَاهُ بن مردويه وغيره.
المعنى الآيَة بلفظ الخبر والمراد بها الإنشاء أي لا تجد قومًا يجمعون بين الإِيمَان بِاللهِ والْيَوْم الآخِر، والمحبة والموالاة لأعداء الله ورسوله.
فلا يكون المُؤْمِنُ بِاللهِ والْيَوْم الآخِر حَقِيقَة إِذَا كَانَ عاملاً على مقتضى إيمانه، ولوازمه من محبة من قام بالإِيمَان وبغض من لم يقم به ومعاداته.
وَلَوْ كَانَ أَقْرَب النَّاسِ إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الإِيمَان على الحَقِيقَة الَّذِي وجدت ثمرته ومقصوده فمن أحب أَحَدًا امتنع أن يوالي عدوه.
ولَقَدْ أصاب المسلمون الْيَوْم من الموالاة لأعداء الله بَلاء شديد فتجد كثيرًا من النَّاس الَّذِينَ يدعون الإِيمَان يوالون أعداء الشرائع الدينية ويعظمونهم ويقدرونهم وينصرونهم على أبناء جنسهم ولو كَانَ فِي هَذَا ذل لَهُمْ ولأمتهم ولدينهم فإنَا لله وإنَا إليه راجعون.
قَالَ فِي النونية:
أَتُحِبُ أَعْدَاءَ الْحَبِيبِ وَتَدَّعِي ** حُبًّا لَهُ مَا ذَاكَ فِي إِمْكَانِ

وَكَذَا تُعَادِي جَاهِدًا أَحْبَابُهُ ** أَيْنَ الْمَحَبَّة يَا أَخَا الشَّيْطَانِ

لَيْسَ الْعِبَادَةُ غَيْرَ تَوْحِيدِ الْمَحَبَّـ ** ــةِ مَعَ خُضُوعِ الْقَلْبِ وَالأَرْكَان

آخر:
وَالْحُبُّ نَفْسُ وِفَّاقِهِ فِيمَا يُحِبْ ** وَبُغْضُ مَا لا يَرْتَضِي بِجِنَان

آخر:
وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِي الله تَبْقَى ** عَلَى الْحَالَيْنِ فِي سِعَةٍ وَضِيقِ

وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِيمَا سِوَاهُ ** فَكَالْحُلَفَاءِ فِي لَهْبِ الْحَرِيقِ

آخر:
إِذْ أَنْتَ لَمْ تَعْمَلْ بِشَرْعٍ وَلَمْ تُطِعْ ** أُولِي الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ التُّقَى وَالتَّسَدُّدِ

وَلَمْ تَجْتَنِبْ أَعْدَا الشَّرِيعة كُلَهُمْ ** وَتَدْفَعُ عَنْهَا بِاللِّسَانِ وَبِالْيَدِ

وَتَحْمِهَا عَنْ جُهَّالِهَا وَتَحُوطُهَا ** وَتَقْمَعُ عَنْهَا نُخْوَةَ الْمُتَهَدِّدِ

فَلَسْتُ لَوْ عَلَّلْتَ نَفْسَكَ بِالْمُنَى ** بِذِي سُؤْدَدٍ بَادٍ وَلا قُرْبَ سُؤْدِد

اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذاننا عَنْ الاستماع إِلَى ما لا يرضيك وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ يَا حي يَا قيوم يَا بديع السماوات والأَرْض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانَا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.؟ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ: وَعَنْ أَبِي ذر مرفوعًا: «أفضل الأَعْمَال الحب فِي الله والبغض فِي الله». رَوَاهُ أبو داود.
وفي الصحيحين: «المرء مَعَ من أحب». وعن علي مرفوعًا: «لا يُحِبُّ رَجُلٌ قومًا إِلا حُشِرَ مَعَهُمْ». رَوَاهُ الطبراني بإسناد جيد.
وقَدْ روى الإِمَام أحمد معناه عَنْ عَائِشَة بإسناد جيد أيضًا عَنْهَا مرفوعًا: «الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفاء فِي اللَّيْلَة الظلماء، وأدناه أن تحب على شَيْء من الجور، أَوْ تبغض على شَيْء من العدل وهل الدين إِلا الحب فِي الله والبغض فِي الله».
يفتخر بَعْض المتحذلقين أنه لا يكره أي إنسان، ولا يبغض أَحَدًا، وأنه يسلك مَعَ الفجرة والفسقة، ومَعَ أَهْل الدين والصلاح بل ومَعَ الكفرة والمنافقين، ويلقب نَفْسهُ ومن سلك مذهبه بأنه دبلوماسي، ويظن هَذَا فخرًا وكرمًا فِي الأَخْلاق ونبلاً وطيبًا.
ولكن من لا يعرف البغض، فلن يعرف الحب ومن لا يكره إنسانًا عاصيًا هيهات أن يحب عبدًا مطيعًا إن تحب مؤمنًا بسبب إخلاصه وتقواه فَكَيْفَ لا تبغضه إِذَا زال عَنْهُ سبب الحب فانقلب فاجرًا متهتكًا، تعفو عمن ظلمك ولكن ما رأيك فيمن ظلم نَفْسهُ وظلم عباد الله، ما رأيك فِي الزناة هاتكي الأعراض، ومدني الخمر وشارَبِي الدخان وحالقي لحاهم، وأَهْل الخنافس والتشبه بأعداء الله أعداء الإِسْلام ومن يشهدون الزور ولا يشهدون صلاة الجماعة، ويغتصبون الحقوق ويؤذون العباد ويخونون الدين والْبِلاد هل تحبهم أَوْ تبغضهم لله فتش عَنْ قلبك وحاسب نفسك هل تحبهم فتعينهم على الظلم أم تبغضهم وتحقرهم وتنابذهم وتبتعد عنهم عَسَى أن يرجعوا عَنْ غيهم وبغيهم لا مفر من أَنْ يكون لَنَا أعداء نبغضهم فِي الله كما يكون لَنَا أصدقاء نحبهم فِي الله.
فيا عباد الله تقربوا إِلَى الله ببغض أَهْل المعاصي الظلمة والمنافقين كما تتقربون إليه بحب الصالحين، أشعروهم بمقتكم لآثامهم، وسخطكم على إجرامهم، ولا تتسامحوا فيما يمس الدين ولا تصفحون عمن يحارب رب العالمين، ولو كَانَ أقرب قريب.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا لأشرف الخلق: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}، أي لو ملت إليهم لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الْمَمَات أي ضاعفنا عَلَيْكَ الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، لأن الذنب من العَظِيم يكون عقابه أشد من غيره.
ومن ثُمَّ يكون عقاب الْعُلَمَاء على زلاتهم أشد من عقاب غيرهم من العامة، لأنهم يقتدون بالْعُلَمَاء، روي عَنْ قتادة أنه قَالَ: لما نزل قوله تَعَالَى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}. إلخ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ لا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين».
فينبغي للمُؤْمِنِ أن يتدبر هَذِهِ الآيَة ويستشعر الخشية ويسأل الله أن يثبته، ويستمسك بأهداب دينه، ويكثر من قول يَا مقلب الْقُلُوب ثَبِّتْ قلبي على دينك وَيَقُولُ كما قَالَ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ لا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين». فإذا كَانَ هَذَا الخطاب لأشرف الخلق فَكَيْفَ بغيره.
وقَالَ تَعَالَى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى وأعرض عَنْ الذكر الحكيم والقرآن العَظِيم: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} وعلى العكس من أقبل على كتاب الله ووقره وقدره وأحبه واتبعه ودعى إِليه نسأل الله العَظِيم أن يغرس محبته فِي قلوبنا ويرزقنا تلاوته والْعَمَل به. وقَالَ ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «من أحب فِي الله وعادى فِي الله وأبغض فِي الله ووالى فِي الله فإنما تنال ولاية الله بذَلِكَ». رَوَاهُ ابن أبي شيبة وابْن أَبِي حَاتِم.
وفي حديث رَوَاهُ أبو نعيم وغيره عَنْ ابن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أوحى الله إِلَى نبي من الأَنْبِيَاء أن قل لفلان العابد أما زهدك فِي الدُّنْيَا فتعجلت راحة نفسك، وأما انقطاعك إلي فتعززت به، فما عملت لي عَلَيْكَ؟ قَالَ: يَا رب وما لك علي؟ قَالَ: هل واليت لي وليًا، أَوْ عاديت لي عدوًا».
وَلَيْسَ فَتَى الْفِتْيَانِ مَنْ ضَاعَ وَقْتُهُ ** بِصُحْفٍ وَتِلْفَازٍ وَقِيْلَ وَقَالُوا

وَلَكِنْ فَتَى الْفِتْيَانِ مَنْ طَاعَ رَبَّهُ ** وَصَارَ بِمَا يُرْضِي الإِلَهَ مِثَالُ

آخر:
لا تَحْسَبَنَّ الْمَوْتَ مَوْتَ الْبَلا ** لَكِنَّمَا الْمَوْتُ هُوَ الْكُفْرُ بِاللهِ

كِلاهُمَا مَوْتٌ وَلَكِنْ ذَا ** أَشَدُّ مِنْ ذَاكَ لِجُحْدِهِ اللهَ

آخر:
وَحَسْبُكَ مِنْ ذُلٍّ وَسُوءِ صَنِيعِهِ ** رُكُوبُكَ مَا لا يَرْتَضِي اللهُ فِعْلَهُ

فائدة:
أقل النَّاس عقلاً من فرط فِي عمله فصرفه فِي غير طاعة الله، وأقل منه عقلاً من صرف وقته فِي معاصي الله، نسأل الله العافية.
وقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} فعقَدْ تَعَالَى الموالاة بين الْمُؤْمِنِينَ، وقطعهم من ولاية الكافرين وأخبر أن الكفار بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض، وإن لم يفعلوا ذَلِكَ وقع فتنة وفساد كبير، وَكَذَا يقع فهل يتم الدين أَوْ يقام علم الجهاد وعلم الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر إِلا بالحب فِي الله والبغض فِي الله والمعاداة فِي الله والموالاة فِي الله.
ولو كَانَ النَّاس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء لم يكن فرق بين الحق وَالْبَاطِل ولا بين الْمُؤْمِنِينَ والكفار ولا بين أَوْلِيَاء الرحمن وأَوْلِيَاء الشيطان.
ومن موالاة الأعداء ومصادقتهم ما يفعله كثير من ضعفاء الإِيمَان من الذهاب إِلَى أعداء الله فِي أيام أعيادهم فيدخلون فِي كنائسهم وبيوتهم وأنديتهم وينهونهم بأعيادهم، والعياذ بِاللهِ.
وأعظم من ذَلِكَ وأطم الَّذِينَ يدرسون على الكفار ويجلسون بين يَدَيّ الكافر والعياذ بِاللهِ ويأتون بشهادة من أعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، وقَالَ جَلَّ وَعَلا: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} فيا أيها المعافي أكثر من حمد الله وشكره وأسأله الثبات حَتَّى الممات.
وقَدْ قِيْل فِي تفسير قوله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أن المراد أعياد المشركين، وقَالَ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ ورطانة الأعاجم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم فِي كنائسهم.
وقَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اجتنبوا أعداء الله فِي عيدهم، ومن الأعياد المحدثة التي لا يجوز للمسلم حضورها لأنها أعياد باطلة ما يسمى بعيد الاستقلال، وعيد الجلاء وعيد الجلوس، وعيد الثورة، ونحو ذَلِكَ من أعياد الكفرة والمنافقين وأتباعهم.
وقَالَ الشَّيْخ حمد بن عتيق رَحِمَهُ اللهُ، ومن أعظم الواجبات على المُؤْمِن محبة الله ومحبة ما يحبه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وَكَذَا ما يحبه من الأشخاص كالملائكة، وصالح بَنِي آدم، وموالاتهم وبغض ما يبغضه الله، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وبَعْض من فعل ذَلِكَ فإذا رسخ هَذَا الأصل فِي قلب المُؤْمِن لم يطمئن إِلَى عدو الله، ولم يجالسه ولم يساكنه وساء نظره إليه.
فَلَمَّا ضعف هَذَا الأصل فِي قُلُوب كثير من النَّاس واضمحل صار كثير مِنْهُمْ مَعَ أَوْلِيَاء الله كحاله مَعَ أعداء الله، يلقى كلا مِنْهُمْ بوجه طليق، وصَارَت بلاد الحرب كبلاد الإِسْلام، ولم يخش غضب الله الَّذِي لا تطيق غضبه السماوات والأَرْض والجبال الراسيات قُلْتُ: فَكَيْفَ لو رأى تدفق الكفرة على الْمُسْلِمِين وتدفق الشباب على بلاد الكفر.
ولما عظمت الفتنة فتنة الدُّنْيَا، وصَارَت أكبر همهم ومبلغ علمهم حملهم ذَلِكَ على التماسها وطلبها ولو بما يسخط الله، فسافروا إِلَى أعداء الله فِي بلادهم، وخالطوهم فِي أوطانهم ولبس عَلَيْهمْ الشيطان أمر دينهم فنسوا عهد الله وميثاقه الَّذِي أخذ عَلَيْهمْ، فِي مثل قوله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}.
اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ:
وقَالَ تَعَالَى لما ذكر حال المنافقين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}، قَالَ بَعْض المفسرين، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عَنْ المنافقين وإغلاظ القول عَلَيْهمْ وأن لا يلقاهم بوجه طلق، بل يكون وجهه مكفهرًا عابسًا متغيرًا من الغيظ فإذا كَانَ هذا مَعَ المنافقين، الَّذِينَ بين أَظْهُرِ الْمُسْلِمِين، يصلون معهم ويجاهدون معهم ويحجون فَكَيْفَ بمن يسافر إِلَى المشركين وأقام بين أظهرهم أيامًا ولياليا واستأذن عَلَيْهمْ فِي بيوتهم وبدأهم بالسَّلام وأكثر لَهُمْ التحية وألان لَهُمْ الكلام ولَيْسَ لَهُ عذر إِلا طلب العاجلة ولم يجعل الله الدُّنْيَا عذرًا لمن اعتذر بها قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ} الآيَة.
وقَالَ الشَّيْخ سُلَيْمَانٌ بن سحمان رَحِمَهُ اللهُ:
وَاللهُ حَرَّمَ مُكْثَ مَنْ هُوَ مُسْلِمٌ ** فِي كُلِّ أَرْضٍ حَلَّهَا الْكُفَّارُ

وَلَهُمْ بِهَا حُكْم الْولايةِ قَاهِرٌ ** فَارْبَأَ بِنَفْسِكَ فَالْمَقَامُ شَنَارُ

وَانْظُرْ حَدِيثًا فِي الْبَرَاءَةِ قَدْ أَتَى ** نَقَلُ الثِّقَاةِ رُوَاتُهُ الأّخْيَارُ

فِيهِ الْبَرَاءَةُ بِالصَّرَاحَةِ قَدْ أَتَتْ ** مِنْ مُسْلِمٍ وَكَذَاكَ الآثَارُ

قَدْ صَرَّحْتَ فِيمَنْ أَقَامَ بِبَلْدَةٍ ** مُسْتَوْطِنًا وَوُلاتُهَا الْكُفَّارُ

وقَالَ فِي آخر كلامه: فالواجب على العاقل الناصح لنفسه النظر فِي أمره والفكر فِي ذنوبه ومجاهدة نَفْسهُ على التوبة النصوح، والندم على ما فات، والعزيمة على أن لا يعود، والتبديل بالْعَمَل الصالح وتقديم محبة الله على جميع المحاب وإيثار مرضاته على حظوظ النفس، فَإِنَّ كُلّ شَيْء ضيعه ابن آدم ربما يكون لَهُ منه عوض، فَإِن ضيع حظه من الله لم يكن لَهُ عوض، قُلْتُ: وقَدْ أحسن من قَالَ:
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتُهُ عِوَضٌ ** وَمَا مِنَ اللهِ إِنْ ضَيَّعْتَه عَوَضُ

آخر:
وَإِنَّمَا رَجُلُ الدُّنْيَا وَوَاحِدُهَا ** مَنْ لا يُعَوِّلُ عَلَى أَحَدٍ سِوَى الله

وقَدْ خاب من كَانَ حظه من الله دنيا يحتلب درها، والخاسر من خسر دينه وإن أفاد فِي دنياه نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يأخذ بنواصيها إليه وأن يلزمنا كلمة التَّقْوَى وأن يجعلنا من أهلها وصلى الله على مُحَمَّد.
بَكِيتُ فَمَا تَبْكِي شَبَاب صَبَاكَا ** كَفَاكَ نَذِيرُ الشَّيْبِ فِيكَ كَفَاكَا

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّيْبَ قَدْ قَامَ نَاعِيًا ** مَكَانَ الشَّبَابِ الْغَضِّ ثُمَّ نَعَاكَا

أَلَمْ تَرَ يَوْمًا مَرَّ إِلا كَأَنَّهُ ** بِإِهْلاكِهِ لِلْهَالِكِينَ عَنَاكَا

أَلا أَيُّهَا الْفَانِي وَقَدْ حَانَ حِيْنُهُ ** أَتَطْمَعُ أَنْ تَبْقَى فَلَسْتَ هُنَاكَا

سَتَمْضِي وَيَبْقَى مَا تَرَاهُ كَمَا تَرَى ** فَيَنْسَاكَ مِنْ خَلَّفْتَهُ هُوَ ذَاكَا

تَمُوتُ كَمَا مَاتَ الَّذِينَ نَسيتَهُمْ ** وَتَنْسَى وَيَهْوَى الْحَيُّ بَعْدَ هَوَاكَا

كَأَنَّكَ قَدْ أُقْصِيتَ بَعْدَ تَقَرُّبٍ ** إِلَيْكَ وَإِنْ بَاكٍ عَلَيْكَ بَكَاكَا

كَانَ الَّذِي يَحْثُو عَلَيْكَ مِن الثَّرَى ** يُرِيدُ بِمَا يَحْثُو عَلَيْكَ رِضَاكَا

كَأنَ خُطُوبُ الدَّهْرِ لَمْ تَجْرِ سَاعَة ** عَلَيْكَ إِذَا الْخَطْبُ الْجَلِيلُ دَهَاكَا

تَرَى الأَرْضَ كَمْ فِيهَا رُهُون كَثِيرَةٌ ** غَلِقْنَ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُنَّ فِكَاكَا

اللَّهُمَّ أَنَا نسألك التَّوْفِيق للهداية والبعد عَنْ أسباب الجهالة والغواية ونسألك الثبات على الإِسْلام والسُنَّة، وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ونعوذ بك من مضلات الفتن، وما ظهر مَنْهَا وما بطن ونسألك أن تنصر دينك، وكتابك ورسولك وعبادك الْمُؤْمِنِينَ وأن تظهر دينك على الدين كله ولو كره الكافرون. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد.
فَصْل:
وقَالَ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ومن تمام محبة الله محبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، فمن أحب شَيْئًا مِمَّا كرهه الله، أَوْ كره شَيْئًا مِمَّا يحبه الله، لم يكمل توحيده وصدقه فِي قوله لا إله إلا الله، وكَانَ فيه من الشرك الخفي بحسب ما كره مِمَّا أحبه الله، وما أحبه مِمَّا يكره الله قَالَ الله تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}، وقَالَ الحسن: اعْلَمْ إِنَّكَ لن تحب الله حَتَّى تحب طاعته. وقَالَ بَعْضهمْ: كُلّ من ادعى محبة الله ولم يوافق الله فِي أمره فدعواه باطلة. وقَالَ يحيى بن معاذ: لَيْسَ بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده، وقَالَ رويم: المحبة الموافقة فِي جميع الأَحْوَال. وأنشد يَقُولُ:
وَلَوْ قُلْتَ لِي مُتْ مُتُّ سَمْعًا وَطَاعَةً ** وقُلْتُ لِدَاعِي الْمَوْت أَهْلاً وَمَرْحَبَا

خَصَائِصُ مَنْ تُشَاوِرُهُ ثَلاثٌ ** فَخُذْهَا مِنْ كَلامِي بِالْحَقِيقَةْ

وِدَادٌ خَالِصٌ وَوُفُورُ عَقْلٍ ** وَمَعْرِفَةٌ بِحَالِكَ بِالْحَقِيقَةْ

فَمَنْ تَمَّتْ لَهُ هَذِي الْمَعَانِي ** فَتَابِعْ رَأْيَهُ وِفْقَ الشَّرِيعَةْ

وَإِنْ خَالَفَ كَلامَ اللهِ أَوْ ** كَلام الْمُصْطَفَى فَاحْذَرْ تُطِيع

ويشهد لهَذَا المعنى قول تَعَالَى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} وقَالَ الحسن: قَالَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّا نحب ربنا شَدِيدًا، فأحب الله أن يجعل لحبه علامة فأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَة.
وَمِنْ هُنَا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله الا بشهادة أن محمدًا رسول الله، فإذا علم أنه لا تتم محبة الله الا بمحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه، فلا طَرِيق إِلَى معرفة ما يحبه ويكرهه، إلا بإتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عَنْهُ، فصَارَت محبته مستلزمة لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه ومتابعته.
أَخْلِصْ لِمَنْ خَلَقَ الأَشْيَاءِ مِنْ عَدَمٍ ** وَاتْبَعْ رَسُولَ الْهُدَى فِيمَا أَتَاكَ بِه

ولهَذَا قرن الله محبته ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي قوله تَعَالَى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ}.
إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} كما قرن طاعته وطاعة رسوله فِي مواضع كثيرة.
وَإِنَّمَا يَتَسَامَى لِلْعُلَى رَجُلٌ ** فِي طَاعَةِ اللهِ لا تُلْهِيهِ أَمْوَالُ

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلاوة الإِيمَان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه الا لله، وأن يكره أن يرجع إِلَى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره إن يُلقى فِي النار». وهذه حالة السحرة لما سكنت المحبة فِي قُلُوبهمْ سمحوا ببذل نفوسهم، وقَالُوا لفرعون: اقض ما أَنْتَ قاض.
وَمَنْ تَكُنْ الْفِرْدَوْسَ هِمَّةُ نَفْسِهِِ ** فَكُلُّ الَّذِي يَلْقَاهُ فِيهَا مُجَيَّبُ

ومتى تمكنت المحبة من الْقَلْب لم تنَبْعَث الْجَوَارِح إلا إِلَى طاعة الرب، وَهَذَا معنى الْحَدِيث الإلهي: «ولا يزال عبدى يتقرب إِلَيَّ بالنوافل حَتَّى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمَعَ به، وبصره الذي يبصر به ويده التِي يبطش بها ورجله التِي يمشى بها». وَفِي بَعْض الروايات فبي يسمَعَ وبي يبصر.
والمعنى أن محبة الله إِذَا استغرق بها الْقَلْب واستولت عَلَيْهِ لم تنَبْعَث الْجَوَارِح إلا إِلَى رضا الرب، وسارت النفس مطمئنة حينئذ بإرادة مولاها عَنْ مرادها وهواها، وَفِي بَعْض الكتب السابقة: من أحب الله لم يكن شَيْء عنده آثر من رضاه.
كَفَانِي فَخْرًا أَنْ أَمُوتَ مُجَاهِدًا ** وَحُبَّ إِلَهِي قَائِدِي مُنْذُ نَشْأَتِي

وقَالَ: لا ينجو غدًا إلا من أتى الله بقلب سليم، لَيْسَ فيه سواه قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وَهُوَ الطاهر من أَدناس المخالفات.
فأما المتلطخ بشَيْء من المكروهات، فلا يصلح لمجاورة حضرة القدوس إلا بعد أن يطهر بكير الْعَذَاب فإذا أزال عَنْهُ الخبث صلح حينئذ للمجاورة إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، فَأَمَّا الْقُلُوب الطيبة فتصلح للمجاورة من أول الأَمْر: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
من لم يحرق نَفْسهُ الْيَوْم بنار الأسف على ما سلف أَوْ بنار الشوق إِلَى لقاء الْحَبِيب، فنار جهنم أشد حرًا ما يحتاج إِلَى تطهير بنار جهنم إلا من لم يكمل التَّوْحِيد والقيام بحقوقه.
أول من تسعر بِهُمْ النار من الموحدين المراؤون بأَعْمَالِهُمْ وأولهم العَالِم والمتصدق والمجاهد للرياء، ولأن الرياء شرك ما تظاهر المرائى إِلَى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق، المرائي يزور التوقيع على اسم الملك ليأخذ البراطيل لنفسه، ويوهمهم أنه من خاصة الملك، وَهُوَ ما يعرف الملك بالكلية، نقش المرائي على الدرهم الزائف اسم الملك ليروج والبهرج لا يجوز ألا على غير الناقَدْ.
وقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: من أحب شَيْئًا سِوَى الله ولم تكن محبته لَهُ لله ولا لكونه معينًا لَهُ على طاعة الله، عذب فِي الدُّنْيَا قبل اللقاء كما قِيْل:
أَنْتَ الْقَتِيلُ بِكُلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ ** فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ فِي الْهَوَى مَنْ تَصْطَفِي

فإذا كَانَ يوم القيامة، ولى الحكم العدل سُبْحَانَهُ كُلّ محب من كَانَ يحبه فِي الدُّنْيَا فكَانَ معه إمَّا منعمًا وإمّا معذبًا، ولهَذَا يمثل لمحب الْمَال ماله شجاعًا أقرع، يأخذ بلهزميته، يقول: أَنَا مالك أَنَا كنْزُك وصفح لَهُ صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبينه وظهره.
وَكَذَا عاشق الصور إِذَا اجتمَعَ هُوَ ومعشوقه على غير طاعة الله، جمَعَ بينهما فِي النار وعذب كُلّ منهما بصاحبه، قَالَ تَعَالَى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}.
وأخبر سُبْحَانَهُ أن الَّذِينَ توادوا فِي الدُّنْيَا على الشرك يكفر بَعْضهمْ ببَعْض يوم القيامة، ويلعن بَعْضهمْ بَعْضًا ومأواهم النار وما لَهُمْ من ناصرين.
فالمحب مَعَ محبوبه دنيا وأخرى، ولهَذَا يَقُولُ الله تَعَالَى يوم القيامة للخلق ألَيْسَ عدلاً مني أن أولي كُلّ رجل منكم ما كَانَ يتولى فِي دار الدُّنْيَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: «المرء مَعَ من أحب». وقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً}.
وقَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} قَالَ عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أزواجهم أشباهم ونظراؤهم، وقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}.
فقرن كُلّ شكل إِلَى شكله، وجعل معه قرينًا وزوجًا، البر مَعَ البر والفاجر مَعَ الفاجر.
والمقصود أن من أحب شَيْئًا سِوَى الله فالضَّرَر حاصل لَهُ بمحبوبه إن وَجَدَ وان فقَدْ، فإنه إن فقَدْ عذب بفواته، وتألم عَلَى قَدْرِ تعلق قَلْبهُ به، وإن وجده كَانَ ما يحصل لَهُ من الألم قبل حصوله، ومن النكد فِي حال حصوله، ومن الحَسْرَة عَلَيْهِ بعد فواته، أضعاف ما فِي حصوله لَهُ من اللذة.
وَهَذَا الأَمْر معلوم بالاستقراء والاعتبار والتجارب، ولهَذَا قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيث الذي رَوَاهُ الترمذى وغيره: «الدُّنْيَا ملعونة ملعون ما فيها ألا ذكر الله وما والاه».
فذكره جميع أنواع طاعته فكل من كَانَ فِي طاعته فهو فِي ذكره، وإن لم يتحرك لِسَانه بالذكر، وكل من والاه فقَدْ أحبه وقربه فاللعنة لا تنال ذَلِكَ بوجه وهي نائلة كُلّ ما عداه.
اللَّهُمَّ ارزقنا العافية فِي أبداننا والعصمة فِي ديننا وأحسن منقلبنا وَوَفِّقْنَا للعمل بِطَاعَتكَ أبدًا ما أبقيتنا واجمَعَ بين خيري الدُّنْيَا والآخرة، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها وارزقنا القيام بِطَاعَتكَ وجنبنا ما يسخطك وأصلح نياتنا وذرياتنا وأعذنا من شر نُفُوسنَا وسيئات أعمالنا وأعذنا من عَدُوّكَ واجعل هوانَا تبعا لما جَاءَ به رسولك صلى الله عليه وسلم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فصل:
عباد الله كلمة التَّوْحِيد: لا إله إلا الله: هِيَ العروة الوثقى وهي التِي فطر الله عَلَيْهَا جميع خلقه.
ولها أركَانَ وشروط، فأركانها اثنان نفي وإثبات. وحد النفي من الإثبات: لا إله، أي نَافيًا جميع ما يعبد من دون الله. والأثبات: إلا الله، أي مثبتًا العبادة لله وحده لا شريك لَهُ فِي عبادته كما أنه لا شريك لَهُ فِي ملكه.
وأما شروطها فسبعة لا تصح هَذِهِ الكلمة ولا تنفع قائلها إلا إِذَا استجمعت لَهُ الشروط التِي تلي.
الأول: العلم، بمعناها نفيًا وإثباتًا، قَالَ الله تَعَالَى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إله إلا الله} وقَالَ: {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «من مَاتَ وَهُوَ يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الْجَنَّة».
الثانى: اليقين، أي استيقان الْقَلْب بها قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} إِلَى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الْجَنَّة». وقَالَ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: «من لقيت وراء هَذَا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قَلْبهُ فبشره بالْجَنَّة». كلاهما فِي الصحيح.
الثالث: الإخلاص، قَالَ الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وقَالَ: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، وَعَنْ أَبِي هريرة قَالَ: قُلْتُ يا رسول الله من أسعد النَّاس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ ظننت يَا أبا هريرة أن لا يسألنى عَنْ هَذَا الْحَدِيث أحد أولى منك لما رَأَيْتُ من حرصك على الْحَدِيث. أسعد النَّاس بشفاعتي يوم القيامة من قَالَ لا إله إلا الله خالصًا من قَلْبهُ أَوْ نَفْسهُ».
وعن أبي هريرة قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ الله تَعَالَى أَنَا أغنى الشركاء عَنْ الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه». رَوَاهُ مُسْلِم.
الرابع: الصدق، قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، عن ابن عباس قَالَ: من جَاءَ بلا إله إلا الله وقَالَ: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّد رسول الله صدقًا من قَلْبهُ إلا حرمه الله عَلَى النَّارِ». متفق عَلَيْهِ. وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: «يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قَلْبهُ». الْحَدِيث رَوَاهُ مُسْلِم.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي علمه شرائع الإِسْلام: «أفلح إن صدق».
الخامس: المحبة: قَالَ الله تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلوة الإِيمَان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله». الْحَدِيث. متفق عَلَيْهِ.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حَتَّى أكون أحب اليه من والده وولده والنَّاس أجمعين». متفق عَلَيْهِ.
السادس: الانقياد لها ظاهرًا وباطنًا، قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، وقَالَ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حَتَّى يكون هواه تبعًا لما جئت به».
السابع: القبول لها، وقَدْ جمَعَ بَعْضهمْ شروط لا إله إلا الله في بيت فقال:
علم يقين وإخلاص وصدقك مَعَ ** محبة وانقياد والقبول لها

فلا يرد شَيْئًا من لوازمها ومقتضياتها، قَالَ تَعَالَى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} إِلَى قوله: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} وقَالَ أيضًا فِي حق من لم يقبلها {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إله إلا الله يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}.
وعن أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فَكَانَتْ مَنْهَا طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكَانَ مَنْهَا أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها النَّاس فشربوا مَنْهَا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هِيَ قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فَذَلِكَ مثل من فقه فِي دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذَلِكَ رأسًا ولم يقبل هدى الله الَّذِي أرسلت به». متفق عَلَيْهِ.
وقَدْ شهد الله لنفسه بالوحدانية فِي قوله تَعَالَى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
فقَدْ تضمنت هَذِهِ الآيَة الكريمة حَقِيقَة التَّوْحِيد والرد على جميع طوائف الضلال فقَدْ تضمنت أجّل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به وعبارات السَّلَف فِي شهد: تدور على الحكم والِقَضَاءِ والأعلام والأخبار والبيان وهذه الأقوال كُلّهَا حق لا تنافي بينها فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه فلها أربع مراتب:
فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.
وثانيها: تكلمه بذَلِكَ وإن لم يعلم به غيره بل يتكلم بها مَعَ نَفْسهُ ويتذكرها ونطق بها أَوْ يكتبها.
وثالثها: أن يعلم غيره بما يشهد ويخبره به ويبينه لَهُ.
ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به فشهادة الله سُبْحَانَهُ لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هَذِهِ المراتب الأربع علمه بذَلِكَ وتكلمه وإخباره لخلقه وأمرهم وإلزامهم به. فأما مرتبة العلم فَإِنَّ الشهادة تتضمنها ضرورة وإلا كَانَ الشاهد شاهدًا بما لا علم لَهُ به، قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «على مثلها فاشهد». وأشار إِلَى الشمس. وأما مرتبة التكلم والخبر فقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} فجعل ذَلِكَ مِنْهُمْ شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عَنْدَ غيرهم.
وأما مرتبة الإعلام فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالْفِعْل، وَهَذَا شأن كُلّ معلم لغيره بأمرٍ، تَارَّة يعلمه به بقول وتَارَّة بفعل ولهَذَا كَانَ من جعل داره مَسْجِدًا وأبرزها وفتح طريقها وأذن للناس بالدخول والصَّلاة فيها معِلْمًا أنها وقف وإن لم يلفظ، وَكَذَا شهادة الرب عَزَّ وَجَلَّ وبيانه وأعلامه يكون بقوله تَارَّة وبفعله أخرى فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، وأما بيانه وإعلامه بفعله كما قَالَ ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عَنْدَ خلقه أن إلا اله إلا هو، وقَالَ الآخر:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ** تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ

آخر:
لَهُ كُلُّ ذَرَّاهِ الْوُجُودِ شَوَاهِدٌ ** عَلَى أَنَّهُ الْبَارِي الإِلَهُ الْمُصَوِّرُ

آخر:
تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الأَرْضِ وَانْظُرْ ** إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ

عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنَ شَاخَِصاتٌ ** بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهِبُ السَّبِيكُ

عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ ** بِأَنَّ اللهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ

وَأَنَّ مُحَمَّدًا خَيْرُ الْبَرَايَا ** إِلَى الثَّقَلَيْنِ أَرْسَلَهُ الْمَلِيكُ

آخر:
تَأَمُلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا ** مِنْ الْمَلِكِ الأَعْلَى إِلَيْكَ رَسَائِلُ

وَقَدْ كَانَ فِيهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا ** أَلا كُلَّ شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ

ومِمَّا يدل على أن الشهادة تَكُون بالْفِعْل قوله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} فهذه شهادة مِنْهُمْ على أنفسهم بما يفعلونه.
وأما مرتبة الأَمْر بذَلِكَ والإلزام به فَإِنَّ مجرد الشهادة لا يستلزمه لكن الشهادة فِي هَذَا الموضع تدل عَلَيْهِ وتتضمنه.
فإنه سُبْحَانَهُ شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده كما قال تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وقَالَ: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً} والقرآن كله شاهد بذَلِكَ.
ووجه استلزام شهادته سُبْحَانَهُ لِذَلِكَ أنه إِذَا شهد أنه لا اله إلا هُوَ فقَدْ أخبر ونبَّأ وأعْلَمَ وحكم وقضى أن ما سواه لَيْسَ بإله وأن ألوهية ما سواه باطلة.
فلا يستحق العبادة سواه كما لا تصلح الإلهية لغيره، وَذَلِكَ يستلزم الأَمْر باتخاذه وحده إلهًا والنهى عَنْ إتخاذ غيره معه إلهًا ولا إله إلا الله هِيَ كلمة التَّوْحِيد التِي اتفقت عَلَيْهَا الرسل صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهمْ أجمعين.
وما من رسول إلا جعلها مفتتح أمره وقضب رحاه كما قَالَ نبينا صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل النَّاس حَتَّى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عَزَّ وَجَلَّ».
وحق هَذِهِ الكلمة هُوَ فعل الواجبات وترك المحرمَاتَ.
وأما فائدتها وثمرتها فالسعادة فِي الدُّنْيَا والآخِرَة لمن قالها عارفًا لمعناها عاملاً بمقتضاها، وأما مجرد النطق فلا ينفع لابد من عمل.
قَالَ شيخ الإِسْلام: من اعتقَدْ أنه بمجرد تلفظه بالشهادة يدخل الْجَنَّة ولا يدخل النار فهو ضال مخالف للكتاب والسُنَّة والإجماع. اهـ.
اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا واكنَّته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التِي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الإحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة:
عباد الله إن لكلمة التَّوْحِيد فضائل عظيمة لا يمكن استقصاؤها مَنْهَا أنها كلمة الإِسْلام وإنها مفتاح دار السَّلام فيا ذوي العقول الصحاح ويا ذوي البصائر والفلاح جددوا إيمانكم فِي المساء والصباح بقول لا إله إلا الله من أعماق قلوبكم متأملين لمعناها عاملين بمقتضاها.
عباد الله ما قامت السماوات والأَرْض ولا صحت السُنَّة والفرض ولا نجا أحد يوم العرض إلا بلا إله إلا الله ولا جردت سيوف الجهاد، ولا أرسلت الرسل إِلَى العباد إلا ليعلمهم الْعَمَل بلا إله إلا الله.
تالله إنها كلمة الحق ودعوة الحق وإنها براءة من الشرك ونجاة هَذَا الأَمْر ولأجلها خلق الله الخلق كما قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ}.
قَالَ ابن عيينة رَحِمَهُ اللهُ: ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله، وأن لا إله إلا الله لأَهْل الْجَنَّة كالماء البارد لأَهْل الدُّنْيَا ولأجلها أعدت دار الثواب، ودار العقاب ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد.
فمن قالها عصم ماله ودمه ومن أباها فماله ودمه حلال، وبها كلم الله مُوَسى كفاحًا وَهِيَ أَحْسَن الحسنات كما فِي المسند عَنْ شداد بن أوس وعبادة بن الصامت رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ لأصحابه: «ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله». فرفعنا أيدينا ساعة فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده. وقَالَ: «الحمد لله اللَّهُمَّ بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها ووعدتني الْجَنَّة وإنك لا تخلف الميعاد».
ثُمَّ قَالَ: «أبشرو فَإِنَّ الله قَدْ غفر لكم وهي أحسن الحسنات وهي تمحو الذُّنُوب والخطايا».
وفي سنن ابن ماجة عَنْ أم هانئ عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا إله إلا الله لا تترك ذنبًا ولا يسبقها عمل». وروي بعض السَّلَف بعد موته فِي المنام فقَالَ: ما أبقت لا إله إلا الله شَيْئًا وهي تجدد ما درس من الإِيمَان فِي الْقَلْب.
وَإِنَّ أَصْدَقَ قَوْلٍ أَنْتَ قَائِلُهُ ** قَوْلٌ تَضَمَّنَ تَوْحِيدَ الَّذِي خَلَقَا

وَفِي المسند أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأصحابه: «جددوا إيمانكم». قَالُوا: كيف نجدد إيماننا؟ قَالَ: «قولوا لا إله إلا الله، وهي التِي لا يعدلها شَيْء فِي الوزن فلو وزنت بالسموات والأَرْض لرجحت بهن»، كما فِي المسند عَنْ عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أن نوحًا عَلَيْهِ السَّلام قَالَ لابنه عَنْدَ موته: آمرك بلا إله إلا الله فَإِنَّ السموات السبع والأرضين السبع لو وضعن فِي كفة ووضعت لا إله إلا الله لرجحت بهن، ولو أن السموات السبع والأرضين كن فِي حلقه مبهمة فصمتهن لا إله إلا الله».
وأنها ترجح بالسموات والأرض كما فِي حديث عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عَنْهُ: «أن مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: يَا رب علمني شَيْئًا اذكرك وادعوك به. قَالَ: يَا مُوَسى قل لا إله إلا الله. قَالَ مُوَسى: يَا رب كُلّ عبادك يقولون هَذَا؟
قَالَ: يَا مُوَسى قل لا إله لا الله. قَالَ: لا إله إلا الله، إنما أريد شَيْئًا تخصني به؟ قَالَ: يَا مُوَسى لو أن السموات السبع والأرضين السبع وعامرهنَّ غيري فِي كفة ولا إله إلا الله فِي كفة مالت بهنَّ لا إله إلا الله»
.
كَذَلِكَ ترحج فِي صحائف الذُّنُوب، كما فِي حديث السجلات، والبطاقة، وفي حديث عَبْد اللهِ بن عمرو فيما أَخْرَجَهُ أحمد والنسائي والترمذى عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
اللَّهُمَّ نجنا بِرَحْمَتِكَ من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَّة دار الْقَرَار وعاملنا بكرمك وجودك يَا كريم يَا غفار واغفر لَنَا، ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه اجمعين.
فصل:
وهي التِي تخرق الحجب حَتَّى تصل إِلَى الله عز وجل وإنها لَيْسَ لها دون الله حجاب، لما تقدم ولما في الترمذي عن عَبْد اللهِ بن عمرو وعن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «لا إله إلا الله لَيْسَ لها دون الله حجاب وأنها تفتح لها أبواب السماء»، كما فِي حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «ما من عبد قَالَ: لا إله إلا الله مخلصًا إلا فتحت لها أبواب السماء حَتَّى تفضي إِلَى العرش».
ويروى عَنْ ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «ما من شَيْئًا إلا بينه وبين الله حجاب، إله الا الله كما أن شفتيك لا تحجبها كَذَلِكَ لا يحجبها شَيْئًا حَتَّى تنتهي إِلَى الله عز وجل».
وورد عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «من قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شيء قدير مخلصًا بها قَلْبهُ يصدق بها لسانه إلا فتح الله السماء فتقًا حَتَّى ينظر إِلَى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤاله، وهي الكلمة التِي يصدق الله قائلها».
كما فِي حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضى الله عنهما عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا قَالَ الْعَبْد لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه وقَالَ لا اله الا أَنَا، وأنَا اكبر. وَإِذَا قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ. قَالَ الله لا إله الا أَنَا وحدي لا شريك لي. وَإِذَا قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، له الملك ولَهُ الحمد. قَالَ الله لا إله إلا أَنَا لي الملك ولي الحمد، وَإِذَا قَالَ العبد لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة الا بِاللهِ، قَالَ الله: لا إله إلا أَنَا ولا حول ولا قوة إلا بي». وكَانَ يَقُولُ: «من قالها فِي مرضه ثُمَّ مَاتَ لم تطعمه النار»، وهي أفضل ما قاله النبيون كما ورد ذَلِكَ فِي دعاء عرفة وهي أفضل الذكر كما فِي حديث جابر المرفوع: «أفضل الذكر لا إله إلا الله» وعن ابن عباس رضى الله عنهما أحب كلمة إِلَى الله لا إله لا الله، لا يقبل الله عملاً إلا بها.
وهي أفضل الأَعْمَال، وأكثرها تضعيفًا وتعدل عتق الرقاب وتَكُون حرزًا من الشيطان، كما فِي الصحيحين عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شيء قدير فِي يوم مائة مرة كَانَتْ لَهُ عدل عشر رقاب، وكتب لَهُ مائة حسنَّة ومحيت عَنْهُ مائة سَيِّئَة ولم يأت أحد بأفضل مِمَّا جَاءَ به، إلا واحد عمل أكثر من ذَلِكَ».
وورد أن من قالها عشر مرات كَانَ كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، وفي الترمذي عَنْ عمر مرفوعًا: «من قالها إِذَا دخل السوق». وزَادَ فيها: «يحيى ويميت بيده الْخَيْر وَهُوَ على كُلّ شيء قدير، كتب الله لَهُ ألف ألف حسُنَّة، ومحى عَنْهُ ألف ألف سَيِّئَة، ورفع لَهُ ألف ألف درجة». وَفِي رواية: «يُبنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة».
ومن فضائلها أنها آمان من وحشة القبر وهول المحشر كما فِي المسند وغيره عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ على أَهْل لا إله إلا الله وحشة فِي قبورهم ولا فِي نشورهم، وكأني بأَهْل لا إله إلا الله ينفضون التُّرَاب عَنْ رؤوسهم ويقولون: الحمد لله الذي اذهب عنا الحزن».
وَفِي حديث مرسل: «من قَالَ لا إله إلا الله الملك الحق المبين كُلّ يوم مائة مرة كَانَتْ أمانًا من الفقر، وأنسًا من وحشة القبر، واستجلب به الغنى، واستقرع به باب الْجَنَّة، وهي شعار الْمُؤْمِنِينَ إِذَا قاموا من قبورهم».
ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الْجَنَّة الثمانية، يدخل من أيها شَاءَ. وفي الصحيحين عَنْ عبادة بن الصامت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عَبْد اللهِ ورسوله، وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه، وأن الْجَنَّة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من فِي القبور، فتحت لَهُ أبواب الْجَنَّة الثمانية يدخل من أيها شَاءَ».
وفي حديث عَبْد الرَّحْمَنِ بن سمرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي قصة منامه الطويل، وفيه قَالَ: «رَأَيْت رجلاً من أمتي انتهى إِلَى أبواب الْجَنَّة فأغلقت دونه، فجأته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت لَهُ الأبواب وأدخلته الْجَنَّة».
ومن فضائلها أن أهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم فِي حقوقهم، فَإِنَّهُمْ لابد أن يخرجوا مَنْهَا. وفي الصحيحين عَنْ أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ الله وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن مَنْهَا من قَالَ لا إله إلا الله». اهـ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وسلم.
فَصْل:
قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: أصل الأَعْمَال الدينية حب الله ورسوله كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله، وكل إرادة تمنع كمال حب الله ورسوله، وتزحم هَذِهِ المحبة فَإِنَّهَا تمنع كمال التصديق.
فهى معارضة لأصل الإِيمَان أَوْ مضعفة لَهُ. فَإِنَّ قويت حَتَّى عارضت أصل الحب والتصديق كَانَتْ كفرًا أَوْ شركًا أكبر، وإن لم تعارضه قدحت فِي كماله وأثرت فيه ضعفًا وفتورًا فِي العزيمة والطلب، وهي تحجب الواصل وتقطع الطالب وتنكي الراغب.
فلا تصلح الموالاة إلا بالمعاداة كما قَالَ تَعَالَى عَنْ إمام الحنفاء المحبين أنه قَالَ لقومه: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} فلم تصلح لخليل الله هَذِهِ الموالاة والخلة إلا بتحقيق هَذِهِ المعاداة فإن ولاية الله لا تصلح إلا بالبراءة من كُلّ معبود سواه.
قَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}.
وقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَهُمْ يَرْجِعُونَ} أَي جعل هَذِهِ الموالاة لله والبراءة من كُلّ معبود سواه كلمة باقية فِي عقبه يتوارثها الأَنْبِيَاء وأتباعهم بَعْضهمْ عَنْ بَعْض. وهي كلمة لا إله إلا الله، وهي التِي وَرَّثَهَا إمام الحنفاء لأتباعه إِلَى يوم القيامة.
وهي الكلمة التِي قامت بها الأَرْض والسموات وفطر الله عَلَيْهَا جميع المخلوقات، وعَلَيْهَا أسست الملة ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد.
وهي محض حق الله على جميع العباد.
وهي الكلمة العاصمة للدم والْمَال والذرية فِي هَذِهِ الدار المنجية من عذاب القبر وعذاب النار، وهي المنشود الذي لا يدخل أحد الْجَنَّة إلا به والحبل الذي لا يصل إِلَى الله من لم يتعلق بسببه.
وهي كلمة الإِسْلام ومفتاح دار السَّلام، وبها انقسم النَّاس إِلَى شقي وسعيد ومقبول وطريد.
وبها انفصلت دار الكفر من دار السَّلام وتميزت دار النَّعِيم من دار الشقاء والهوان.
وهي العمود الحامل للفرض والسُنَّة ومن كَانَ آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الْجَنَّة.
وروح هَذِهِ الكلمة وسرها إفراد الرب جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتَعَالَى جده ولا إله غيره بالمحبة والإجلال والتعَظِيم والخوف والرجَاءَ وتوابع ذَلِكَ، من التوكل والإنابة والرغبة والرهبة.
فلا يحب سواه، بل كُلّ ما كَانَ يحب غيره فإنما هُوَ تبعًا لمحبته وكونه وسيلة إِلَى زيادة محبته ولا يخاف سواه، ولا يرجو سواه ولا يتوكل إلا عَلَيْهِ، ولا يرغب إلا إليه، ولا يرهب إلا منه.
ولا يحلف إلا باسمه، ولا ينذر إلا له، ولا يتأب إلا إليه، ولا يطاع إلا أمره، ولا يحتسب إلا به، ولا يستعان فِي الشدائد إلا به، ولا يلتجأ إلا إليه، ولا يسجد إلا لَهُ، ولا يذبح إلا لَهُ وباسمه. يجتمَعَ ذَلِكَ فِي حرف واحد هُوَ أن: لا يعبد بجميع أنواع العبادة إلا هُوَ.
فهَذَا هُوَ تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، ولهَذَا حرم الله عَلَى النَّارِ أن تأكل من شهد أن لا إله إلا الله حَقِيقَة الشهادة، ومحال أن يدخل النار من تحقق بحَقِيقَة هَذِهِ الشهادة وقام بها كما قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} فيكون قائمًا بشهادته فِي باطنه وظاهره وَفِي قَلْبهُ وقالبه.
فإن من النَّاس من تَكُون شهادته ميتة.
وَمِنْهُمْ من تَكُون نائِمَّة إِذَا نبهت انتبهت، وَمِنْهُمْ من تَكُون مضطجعة، وَمِنْهُمْ من تَكُون إِلَى القيام أقرب. وهي فِي الْقَلْب بمنزلة الروح فِي البدن. فروح ميتة وروح مريضة إِلَى الموت أقرب.
وروح إِلَى الحياة أقرب، وروح صحيحة قَائِمَة بمصالح البدن. وفي الْحَدِيث الصحيح عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عَنْدَ الموت إلا وجدت روحه لها روحًا».
فحياة هَذِهِ الروح بهذه الكلمة فكما أن حياة البدن بوجود الروح فيه وكما إن من مَاتَ على هَذِهِ الكلمة فهو فِي الْجَنَّة يتقلب فيها.
فمن عاش على تحقيقها والقيام بها فروحه تتقلب فِي جنة المأوى وعيشها أطيب عيش، قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.
فالْجَنَّة مأواه يوم اللقاء، وجنة المعرفة والمحبة والأُنْس بِاللهِ والشوق إِلَى لقائه والفرح به والرضى عَنْهُ وبه مأوى روحه فِي هَذِهِ الدار.
فمن كَانَتْ هَذِهِ الْجَنَّة مأواه ها هنا كَانَتْ جنة الخلد مأواه يوم الميعاد، ومن حرم هَذِهِ الْجَنَّة فهو لتلك الْجَنَّة أشد حرمانًا.
والأَبْرَار فِي نعيم وإن اشتد بِهُمْ العيش وضاقت بِهُمْ الدُّنْيَا، والفجار فِي جحيم وإن اتسعت عَلَيْهمْ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}.
وطيب الحياة جنة الحياة، قَالَ تَعَالَى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}، فأي نعيم أطيب من شرح الصدر، وأي عذاب أشد من ضيق الصدر.
وقَالَ تَعَالَى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
فالمُؤْمِن المخلص لله من أطيب النَّاس عيشًا وأنعمهم بالاً وأشرحهم صدرًا وأسرهم قلبًا، وهذه جَنَّة عاجلة قبل الْجَنَّة الآجلة؟ قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مررتم برياض الْجَنَّة فارتعوا». قَالُوا: وما رياض الْجَنَّة؟ قَالَ: «حلق الذكر».
ومن هَذَا قوله صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الْجَنَّة». ومن هَذَا قوله وقَدْ سألوه عَنْ وصاله فِي الصوم وقَالَ: «إني لست كهيئتكم إني أظِلّ عَنْدَ ربى يطعمني ويسقينى».
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن ما يحصل لَهُ من الغذاء عَنْدَ ربه يقوم مقام الطعام والشراب الحسي، وأن ما يحصل لَهُ من ذَلِكَ أمر مختص به لا يشركه فيه غيره، فإذا أمسك عَنْ الطعام والشراب فله عوض عَنْهُ يقوم مقامه وينوب منابه ويغني عَنْهُ كما قِيْل:
لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا ** عَنِ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنْ الزَّاد

لَهَا بِوَجْهِكَ نُورٌ تَسْتَضِئُ بِهِ ** وَمِنْ حَدِيثِكَ فِي أَعْقَابِهَا حَادِي

إِذَا اشْتَكَتْ مَنْ كِلالِ السَّيْرِ أَوْعَدَهَا ** رُوحُ اللقَاءِ فتحي عَنْدَ ميعَاد

وكُلَّما كَانَ وجود الشئ أنفع للعبد وَهُوَ إليه أحوج كَانَ تألمه بفقده أشد، وكُلَّما كَانَ عدمه أنفع كَانَ تألمه بوجوده أشد، ولا شَيْء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله، واشتغاله بذكره وتنعمه بحبه، وإيثاره لمرضاته. بل لا حياة ولا نعيم ولا سرور ولا بهجة إلا بذَلِكَ.
فعدمه ألم شَيْء لَهُ وأشد عذابًا عليه، وإنما تغيب الروح عَنْ شهود هَذَا الألم والْعَذَاب لا اشتغالها بغيره واستغراقها فِي ذَلِكَ الغير فتغيب به عَنْ شهود ما هِيَ فيه من ألم العقوبة بفراق أحب شَيْء إليها وأنفعه لها.
وهذا بمنزلة السكران المستغرق فِي سكره الذي احترقت داره وأمواله وأهله وأولاده وَهُوَ لاستغراقه فِي السكر لا يشعر بألم ذَلِكَ الفوات وحسرته.
حتى إِذَا صحا وكشف عَنْهُ غطاء السكر وانتبه من رقدة الخمر فهو اعْلَمْ بحاله حيئنذٍ، وهكَذَا الحال سواء عَنْدَ كشف الغطاء ومعاينة طلائع الآخِرَة والإشراف على مفارقة الدُّنْيَا والانتقَال مَنْهَا إِلَى الله.
بل الألم والحَسْرَة والْعَذَاب هناك أشد بأضعاف أضعاف ذَلِكَ، فَإِنَّ المصاب فِي الدُّنْيَا يرجو جبر مصيبته فِي الدُّنْيَا بالعوض ويعلم أنه قَدْ أصيب بشَيْء زائل لا بقاء له، فَكَيْفَ بمن مصيبته بما لا عوض عَنْهُ ولا بدل منه ولا نسبة بينه وبين الدُّنْيَا جميعها.
فلو قضى الله سُبْحَانَهُ بالموت من هَذِهِ الحَسْرَة والألم لكَانَ الْعَبْد جديرًا به، وأن الموت ليعد أكبر أمنيته وأكبر حسراته هذا لو كان الألم على مجرد الفوات.
كيف وهناك من الْعَذَاب على الروح والبدن أمور أخرى مِمَّا لا يقدر قدره؟
فتبارك من حمل هَذَا الخلق الضعيف هذين الأليمين العظيمين اللذين لا تحملهما الجبال الرواسي. فاعرض على نفسك الآن أعظم محبوب لَكَ فِي الدُّنْيَا، بحيث لا تطيب لَكَ الحياة إلا معه فأصبحت وقَدْ أخذ منك وحيل بينك وبينه أحوج ما كنت اليه، كيف يكون حالك هَذَا ومنه كُلّ عوض؟ فَكَيْفَ بمن لا عوض عَنْهُ؟ كما قِيْل:
وَمَا ضَرَّنِي إِتْلافُ عُمْرِي كُلِّهِ ** إِذَا لِمَرَاضِي اللهِ أَصْبَحْتُ حَائِزَا

وَفِي الأثر الإلهي: «ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبَنِي تجدني فَإِنَّ وجدتني وجدت كُلّ شَيْء، وإن فتك فاتك كُلّ شَيْء، وأنَا أحب إليك من كُلّ شَيْء». انتهى كلامه رَحِمَهُ اللهُ.
كُلٌّ لَهُ مَطْلَبٌ يَسْعَى لِيُدْرِكَهُ ** مُسْتَحْسِنًا لِلَّذِي يرضَى وَيَهْوَاه

وَذُو الدِّيَانَةِ يَسْعَى دَائِمًا أَبَدًا ** فِيمَا يَرَى أَنَّهُ يَرْضَى بِهِ الله

اللَّهُمَّ علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً علينا. اللَّهُمَّ قوى معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا ومتعنا بإسماعنا وأبصارنا وقواتنا يا رب العالمين. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
قَالَ الشَّيْخ سُلَيْمَانٌ بن سحمان رَحِمَهُ اللهُ:
رَسَائِلُ إِخْوَانِ الصَّفَا وَالتَّوَدُّدِ ** إِلى كُلّ ذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ مُوَحِّدِ

وَمِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللهِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَا ** صَلاةً وَتَسْلِيمًا عَلَى خَيْرِ مُرْشِدِ

وَآلٍ وَصَحْبٍ وَالسَّلامُ عَلَيْكُمُ ** بِعَدِّ وَمِيضِ الْبَرْقِ أَهْلَ التَّوَدُّدِ

وَبَعْدُ فَقَدْ طَمَّ الْبَلاءُ وَعَمَّنَا ** مِن الْجَهْلِ بِالدِّينِ الْقَوِيمِ الْمُحَمَّدِي

بِمَا لَيْسَ نَشْكُو كَشْفَهُ وَانْتِقَادَنَا ** لِغَيْرِ الإِلهِ الْوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ

وَلَمْ يَبْقَ إِلا النَّزْرُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ ** يُعَادِيهُمُ مِنْ أَهْلِهَا كُلُّ مُعْتَدِ

فَهُبُّوا عِبَادَ اللهِ مِنْ نَوْمَةِ الرَّدَى ** إِلى الْفِقْهِ فِي أَصْلِ الْهُدَى وَالتَّجَرُّدِ

وَقَدْ عَنَّ أَنْ نُهْدِي إِلَى كُلِّ صَاحِبٍ ** نَضِيدًا مِن الأَصْلِ الأَصِيلِ الْمُؤَطَّدِ

فَدُونَكَ مَا نُهْدِي فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ ** لِذَلِكَ أَمْ قَدْ غِينَ قَلْبُكَ بِالدَّدِ

تَرُوقُ لَكَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِ أَهْلِهَا ** كَأَنْ لَمْ تَصِرْ يَوْمًا إِلَى قَبْرِ مَلْحَدِ

فَإِنْ رُمْتَ أَنْ تَنْجُو مِن النَّارِ سَالِمًا ** وَتَحْظَى بِجَنَّاتٍ وَخُلْدٍ مُؤَبَّدِ

وَرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَأَرْفَهِ حِبْرَةٍ ** وَحُورٍ حِسَانٍ كَالْيَوَاقِيتِ خُرَّدِ

فَحَقِّقْ لِتَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ مُخْلِصًا ** بِأَنْوَاعِهَا للهِ قَصْدًا وَجَرِّدِ

وَأَفْرِدْهُ بِالتَّعْظِيمِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَا ** وَبِالْحُبِّ وَالرُّغْبَى إِلَيْهِ وَجَرِّدِ

وَبِالنَّذْرِ وَالذَّبْحِ الذَّي أَنْتَ نَاسِكٌ ** وَلا تَسْتَغِثْ إِلا بِرَبِّكَ تَهْتَدِ

وَلا تَسْتَعِنْ إِلا بِهِ وَبِحَوْلِهِ ** لَهُ خَاشِيًا بَلْ خَاشِعًا فِي التَّعَبُّدِ

وَلا تَسْتَعِذْ إِلا بِهِ لا بِغَيْرِهِ ** وَكُنْ لائِذًا بِاللهِ فِي كُلِّ مَقْصَدِ

إِلَيْهِ مُنِيبًا تَائِبًا مُتَوَكِّلاً ** عَلَيْهِ وَثِقْ بِاللهِ ذِي الْعَرْشِ تَرْشُدِ

وَلا تَدْعُ إِلا اللهَ لا شَيْءَ غَيْرَهُ ** فَدَاعٍ لِغَيْرِ اللهِ غَاوٍ وَمُعْتَدِ

وَفِي صَرْفِهَا أَوْ بَعْضِهَا الشِّرْكُ قَدْ أَتَى ** فَجَانِبْهُ وَاحْذَرْ أَنْ تَجِيءَ بُمؤِيدِ

وَهَذَا الذِّي فِيهِ الْخُصُومَة قَدْ جَرَتْ ** عَلَى عَهْدٍ نُوحٍ وَالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ

وَوَحِّدْهُ فِي أَفْعَالِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ ** مُقِرًّا بِأَنَّ اللهَ أَكْمَلُ سَيِّدِ

هُوَ الْخَالِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ مُدَّبِرٌ ** هُوَ الْمَالِكُ الرَّزَاقُ فَاسْأَلْهُ وَاجْتَدِ

إِلى غَيْرِ ذَا مِنْ كُلِّ أَفْعَالِهِ الَّتِِي ** أَقَرَّ وَلَمْ يَجْحَدْ بِهَا كُلُّ مُلْحِدِ

وَوَحِّدْهُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ** وَلا تَتَأَوَلْهَا كَرَأْي الْمُفَنَّدِ

فلَيْسَ كَمِثْلِ اللهِ شَيْءٌ وَلا لَهُ ** سَمِيٌّ وَقُلْ لا كُفْوَ للهِ تَهْتَدِي

وَذَا كُلُّهُ مَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّهُ ** إِلهَ الْوَرَى حَقًّا بِغَيْرِ تَرَدُّدِ

فَحَقِّقْ لَهَا لَفْظًا وَمَعْنَى فَإِنَّهَا ** لَنِعْمَ الرَّجَا يَوْمَ اللقَا لِلْمُوَحِّدِ

وَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى فَكُنْ مُتَمَسِّكًا ** بِهَا مُسْتَقِيمًا فِي الطَرِيقِ الْمُحَمَّدِي

فَكُنْ وَاحِدًا فِي وَاحِدٍ وَلِوَاحِدٍ ** تَعَالَى وَلا تُشْرِكْ بِهِ أَوْ تُنَدِّدِ

وَمَنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِكُلِّ شُرُوطِهَا ** كَمَا قَالَهُ لأَعْلامُ مِن كُلِّ مُهْتَدِ

فَلَيْسَ عَلَى نَهْجِ الشَّرِيعَةِ سَالِكًا ** وَلَكِنْ عَلَى أَرَاءِ كُلِّ ملدّدِ

فَأَوَّلُهَا الْعِلْمُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ ** مِن الْجَهْلِ إِنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِمُسْعِدِ

فَأَوَّلُهَا الْعِلْمُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ ** مِن الْجَهْلِ إِنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِمُسْعِدِ

فَلَوْ كَانَ ذَا عِلْمٍ كَثِيرٍ وَجَاهِلٌ ** بِمَدْلُولِهَا يَوْمًا فَبِالْجَهْلِ مُرْتَدِ

وَمِنْ شَرْطِهَا وَهُوَ الْقُبُولُ وَضِدُّهُ ** هُوَ الرَّدُ فَافْهَمْ ذَلِكَ الْقَيْدَ تَرْشُدِ

كَحَالِ قُرَيْشٍ حِينَ لَمْ يَقْبَلُوا الْهُدَى ** وَرَدُّوهُ لِمَا أَنْ عَتَوْا فِي التَّمَرُّدِ

وَقَدْ عَلِمُوا مِنْهَا الْمُرَادَ وَأَنَّهَا ** تَدَلُّ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَالتَّفَرُّدِ

فَقَالُوا كَمَا قَدْ قَالَهُ اللهُ عَنْهُمْ ** بِسُورَةِ ص فَاعْلَمَنْ ذَاكَ تَهْتَدِ

فَصَارَتْ بِهِ أَمْوَالُهُمْ وَدِمَاءُهُمْ ** حَلالاً وَأَغْنَامًا لِكُلِّ مُوَحِّدِ

وَثَالِثُهَا الإِخْلاصُ فَاعْلَمْ وَضِدُّهُ ** هُوَ الشِّرْكُ بِالْمَعْبُودِ مِنْ كُلِّ مُلْحِدِ

كَمَا أَمَرَ اللهَ الْكَرِيمُ نَبِيَّهُ ** بِسُورَةِ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ الْمُمَجَّدِ

وَرَابِعُهَا شَرْطُ الْمَحَبَّةِ فَلْتَكُنْ ** مُحِبًّا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الْهُدِ

وَإِخْلاصُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ كُلِّهَا ** كَذَا النَّفْيُ لِلشِّرْكِ الْمُفَنَّدِ وَالدَّدِ

وَمَنْ كَانَ ذَا حُبٍّ لِمَوْلاهُ إِنَّمَا ** يَتِمُّ بِحُبِّ الدِّينِ دِينِ مُحَمَّدِ

فَعَادِ الذِّي عَادَى لِدِينِ مُحَمَّدٍ ** وَوَالِ الَّذِي وَالاهُ مِن كُلِّ مُهْتَدِ

وَأَحْبِبْ رَسُولَ اللهِ أَكْمَلَ مَنْ دَعَى ** إِلى اللهِ وَالتَّقْوَى وَأَكْمَلَ مُرْشِدِ

أَحَبَّ مِن الأَوْلادِ وَالنَّفْسِ بَلْ وَمِنْ ** جَمِيع ِالْوَرَى وَالْمَالِ مِنْ كُلِّ أَتْلَدِ

وَطَارِفِهِ وَالْوَالِدَيْنِ كِلَيْهِمَا ** بِآبَائِنَا وَالأُمَّهَاتِ فَنَفْتَدِ

وَأَحْبِبْ لِحُبِّ اللهِ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ** وَأَبْغِضْ لِبُغْضِ اللهِ أَهْلَ التَّمَرُّدِ

وَمَا الدِّينُ إلا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَالْوَلا ** كَذَاكَ الْبَرَا مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُعْتَدِ

وَخَامِسُهَا فَالإِنْقِيَادُ وَضِدُّهُ ** هُوَ التَّرْكُ لِلْمَأْمُورِ أَوْ فِعْلُ مُفْسِدِ

فَتَنْقَادُ حَقُّا بِالْحُقُوقِ جَمِيعَهَا ** وَتَعْمَلُ بِالْمَفْرُوضِ حَتْمًا وَتَقْتَدِ

وَتَتْرُكَ مَا قَدْ حَرَّمَ اللهُ طَائِعًا ** وَمُسْتَسْلِمًا للهِ بالْقَلْبِ تَرْشُدِ

فَمَنْ لَمْ يَكُنْ للهِ بِالْقَلْبِ مُسْلِمًا ** وَلَمْ يَكُ طَوْعًا بالْجَوَارِحِ يَنْقَدِ

فَلَيْسَ عَلَى نَهْجِ الشَّرِيعَةِ سَالِكًا ** وَإِنْ خَالَ رُشْدًا مَا أَتَى مِنْ تَعَبُّدِ

وَسَادِسُهَا وَهُوَ الْيَقِينُ وَضِدُّهُ ** وَهُوَ الشَّكُّ فِي الدِّينِ الْقَوِيمِ الْمُحَمَّدِي

وَمَنْ شَكَّ فَلْيَبْكِي عَلَى رَفْضِ دِينِهِ ** وَيَعْلَمْ أَنْ قَدْ جَاءَ يَوْمًا بِمُؤْيِدِ

وَيَعْلَمْ أَنَّ الشَّكَ يَنْفِي يَقِينَهَا ** فَلا بُدَّ فِيهَا بِالْيَقِينِ الْمُؤَكَّدِ

بِهَا قَلْبُهُ مُسْتَيْقِنًا جَاءَ ذِكْرُهُ ** عَنِ السَّيِّدِ الْمَعْصُومِ أَكْمَلَ مُرْشِدِ

وَلا تَنْفَعُ الْمَرْءَ الشَّهَادَةُ فَاعْلَمَنْ ** إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَيِقنًا ذَا تَجَرُّدِ

وَسَابِعُهَا الصِّدْقُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ ** مِن الْكَذِبِ الدَّاعِي إِلَى كُلِّ مُفْسِدِ

وَعَارِفُ مَعْنَاهَا إِذَا كَانَ قَابِلاً ** لَهَا عَامِلاً بِالْمُقْتَضَى فَهُوَ مُهْتَدِ

وَطَابَقَ فِيهَا قَلْبُهُ لِلِسَانِهِ ** وَعَنْ وَاجِبَاتِ الدِّينِ لَمْ يَتَبَلَّدِ

وَمَنْ لَمْ يَقُمْ هَذِهِ الشُّرُوطُ جَمِيعُهَا ** بَقَائِلِهَا يَوْمًا فلَيْسَ عَلَى الْهُدِي

إِذَا صَحَّ هَذَا وَاسْتَقَرَّ فَإِنَّمَا ** حَقِيقَتُهُ الإِسْلامُ فَاعْلَمْهُ تَرْشُدِ

وَإِنْ لَهُ- فَاحْذَرْ هُدِيتَ- نَوَاقِضًا ** فَمَنْ جَاءَ مِنْهَا نَاقِضًا فَلْيُجَدِّدِ

فَقَدْ نَقَضَ الإِسْلامَ وَارْتَدَّ وَاعْتَدَى ** وَزَاغَ عَنْ السَّمْحَاءِ فَلْيَتَشَهَّدِ

فَمِنْ ذَاكَ شِرْكٌ فِي الْعِبَادَةِ نَاقِضٌ ** وَذَبْحٌ لِغَيْرِ الْوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ

كَمَنْ كَانَ يَغْدُو لِلْقِبَابِ بِذَبْحِهِ ** وَلِلْجِنِّ فِعْلَ الْمُشْرِكِ الْمُتَمَرِّد

وَجَاعِلِ بَيْنَ اللهِ- بَغْيًا – وَبَيْنَهُ ** وَسَائِطَ يَدْعُوهُمْ فلَيْسَ بِمُهْتَدِ

وَيَطْلُبُ مِنْهُمْ بِالْخُضُوعِ شَفَاعَةً ** إِلَى اللهِ وَالزُّلْفَى لَدَيْهِ وَيَجْتَدِ

وَثَالِثُهَا مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِكَافِرِ ** وَمَنْ كَانَ فِي تَكْفِيرِهِ ذَا تَرَدُّدِ

وَصَحَّحَ عَمْدًا مَذْهَبَ الْكُفْرِ وَالرَّدَى ** وَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ مَن هُدِي

وَرَابِعُهَا فَالإعْتِقَادُ بِأَنَّمَا ** سِوَى الْمُصْطَفَى الْهَادِي وَأَكْمَلِ مُرْشِدِ

لأَحْسَنُ حُكْمًا فِي الأُمُوِر جَمِيعِهَا ** وَأَكْمَلُ مِنْ هَدْي النَّبِيّ مُحَمَّدِ

كَحَالَةِ كَعْبٍ وَابنِ أَخْطَبَ وَالَّذِي ** عَلَى هَدْيِهِم مِنُ كُلِّ غَاوٍ وَمُعْتَدِ

وَخَامِسُهَا يَا صَاحِ مَنْ كَانَ مُبْغِضًا ** لِشَيْءٍ أَتَى مِن هَدْي أَكْمَلِ سَيِّدِ

فَقَدْ صَارَ مُرْتَدًا وَإِنْ كَانَ عَامِلاً ** بِمَا هُوَ ذَا بُغْضٍ لَهُ فَلْيُجَدِّدِ

وَذَلِكَ بِالإِجْمَاعِ مِنْ كُلِّ مُهْتَدٍ ** وَقَدْ جَاءَ نَصُّ ذِكْرُهُ فِي مُحَمَّدِ

وَسَادِسُهَا مَنْ كَانَ بِالدِّينِ هَازِئًا ** وَلَوْ بِعِقَابِ الْوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ

وَحُسْنُ ثَوَابِ اللهِ لِلْعَبْدِ فَلْتَكُنْ ** عَلَى حَذِرٍ مِنْ ذَلِكَ القِيْلِ تَرْشُدِ

وَقَدْ جَاءَ نَصٌّ فِي بَرَاءةَ ذِكْرُهُ ** فَرَاجِعْهُ فِيهَا عِنْدَ ذِكْرِ التَّهَدُّدِ

وَسَابِعُهَا مَنْ كَانَ لِلسِّحْرِ فَاعِلاً ** كَذَلِكَ رَاضٍ فِعْلَهُ لَمْ يُفَنِّدِ

وَفِي سُورَةِ الزَّهْرَاءِ نَصٌّ مُصَرِّحٌ ** بِتَكْفِيرِهِ فَاطْلُبْه مِنْ ذَاكَ تَهْتَدِ

وَمِنْهُ لَعَمْرِي الصَّرْفُ وَالْعَطْفُ فَاعْلَمَنْ ** أَخِي حُكْمَ هَذَا الْمُعْتَدِي الْمُتَمَرِّدِ

وَثَامِنُهَا وَهِيَ الْمُظَاهَرَةُ الَّتِي ** يُعَانُ بِهَا الْكُفَّارُ مِنْ كُلِّ مُلْحِدِ

عَلَى الْمُسْلِمِينِ الطَّائِعِينَ لِرَبِّهِمْ ** عِيَاذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ كُلِّ مُفْسِدِ

وَمَنْ يَتَوَلَّى كَافِرًا فَهُوَ مِثْلُهُ ** وَمِنْهُ بِلا شَكٍّ بِهِ أَوْ تَرَدُّدِ

كَمَا قَالَهُ الرَّحْمَنُ جَلَّ جَلالُهُ ** وَجَاءَ عَنْ الْهَادِي النَّبِيِّ مُحَمَّدِ

وَتَاسِعُهَا وَهُوَ اعْتِقَادُ مُضَلِّلٌ ** وَصَاحِبُهُ لا شَكَّ بِالْكُفْرِ مُرْتَدِ

كَمُعْتَقِدِ أَنْ لَيْسَ حَقًّا وَوَاجِبًا ** عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْمُصْطَفَى خَيْرِ مُرْشِدِ

فَمَنْ يَعْتَقِدْ هَذَا الضَّلالَ وَأَنَّهُ ** يَسَعْهُ خُرُوجٌ عَنْ شَرِيعَةِ أَحْمَدِ

كَمَا كَانَ هَذَا فِي شَرِيعَةِ مَنْ خَلا ** كَصَاحِبِ مُوَسَى حَيْثُ لَمْ يَتَقَيَّدِ

هُوَ الْخَضِرُ المَقْصُوصُ في الْكَهْفِ ذِكْرُهُ ** وَمُوَسَى كَلِيمِ اللهِ فَافْهَمْ لِمَقْصَدِ

وَهَذَا اعْتِقَادُ لِلْمَلاحِدَةِ الأَولَى ** مَشَايِخِ أَهْلِ الاتِّحَادِ الْمُفَنَّدِ

كَنَحْوِ ابنِ سِينَا وَابنِ سَبْعِينَ وَالَّذِي ** يُسَمَّى ابنَ رُشْدٍ وَالْحَفِيدِ الْمُلَدَّدِ

وَشَيْخٌ كَبِيرٍ فِي الضَّلالَةِ صَاحِبُ الْـ ** ـفُصُوصِ وَمَنْ ضَاهَاهُمُ فِي التَّمَرُّدِ

وَعَاشِرُهَا الإِعْرَاضُ عَنْ دِينِ رَبِّنَا ** فَلا يَتَعَلَّمْهُ فَلَيْسَ بِمُهْتَدِ

وَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ عَامِلاً ** بِهِ فَهُوَ فِي كُفْرَانِهِ ذُو تَعَمُّدِ

وَلا فَرْقَ فِي هَذِي النَّوَاقِضِ كُلِّهَا ** إِذَا رُمْتَ أَنْ تَنْجُو وَلِلْحَقِّ تَهْتَدِ

هُنَالِكَ بَيْنَ الْهَزْلِ وَالْجَدِّ فَاعْلَمَنْ ** وَلا رَاهِبِ مِنْهُمْ لِخَوْفِ التَّهَدُّدِ

سِوَى الْمُكْرَهِ الْمَضْهُودِ إِنْ كَانَ قَدْ أَتَى ** هُنَالِكَ بِالشَّرْطِ الأَصِيدِ الْمُؤَكَّدِ

وَحَاذِرْ هَدَاكَ اللهُ مِنْ كُلِّ نَاقِضٍ ** سِوَاهَا وَجَانِبْهَا جَمِيعًا لِتَهْتَدِ

وَكُنْ بَاذِلاً لِلْجَدِّ وَالْجُهْدِ طَالِبًا ** وَسَلْ رَبَّكَ التَّثْبِيتَ أَيَّ مُوَحِّدِ

وَإِيَّاهُ فَارْغَبْ فِي الْهِدَايَةِ لِلْهُدَى ** لَعَلَّكَ إِنْ تَنْجُو مِن النَّارِ فِي غَدِ

وَصَلِ إِلَهِي مَا تَأَلَّقَ بَارِقٌ ** وَمَا وَخَدَتْ قُودٌ بِمَوْرٍ مُعَبَّدِ

تَؤُمُّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَمَا سَرَى ** نَسِيمُ الصَّبَا أَوْ شَاقَ صَوْتُ الْمُغَرِّدِ

وَمَا لاحَ نِجْمٌ فِي دُجَى اللَّيْلِ طَافِحٌ ** وَمَا انْهَلَّ صَوْبُ فِي عَوَالٍ وَوُهَّدِ

عَلَى السَّيِّدِ الْمَعْصُومِ أَفْضَلَ مُرْسَلٍ ** وَأَكْرَمَ خَلْقِ اللهِ طُرًا وَأَجْوَدِ

وَمَا لاحَ نِجْمٌ فِي دُجَى اللَّيْلِ طَافِحٌ ** وَمَا انْهَلَّ صَوْبُ فِي عَوَالٍ وَوُهَّدِ

عَلَى السَّيِّدِ الْمَعْصُومِ أَفْضَلَ مُرْسَلٍ ** وَأَكْرَمَ خَلْقِ اللهِ طُرًا وَأَجْوَدِ

وَآلِ وَأَصْحَابٍ وَمَنْ كَانَ تَابِعًا ** صَلاةً دَوَامًا فِي الرَّوَاحِ وَفِي الْغَد

اللَّهُمَّ أحي قلوبًا آماتها البعد عَنْ بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يَا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالأفضال، اللَّهُمَّ أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عَنْ جرائمنا بعفوك وغفرانك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.